تحرير محلّ النِّـزاع : قال ابن الملقّن : أجمعت الأمة على كراهة صلاة لا سبب لها في أوقات النهي ، واتفقوا على جواز الفرائض المؤدّاة فيها . واختلفوا في النوافل التي لها سبب كالعيد والجنازة وقضاء الفوائت ([1]) . وقال الشوكاني : وقد اختلف أهل العلم في الصلاة بعد العصر وبعد الفجر ، فذهب الجمهور إلى أنها مكروهة وادعى النووي الاتفاق على ذلك ، وتعقبه الحافظ بأنه قد حُكي عن طائفة من السلف الإباحة مطلقا ، وأن أحاديث النهي منسوخة . قال : وبه قال داود وغيره من أهل الظاهر ، وبذلك جزم ابن حزم ([2]) . وتعقب الحافظ للنووي مُتعقّب : لأن الإمام النووي لا يرى الاعتداد بخلاف أهل الظاهر ، فإنه قال في المجموع ([3]) في مناقشة مسألة أخرى : فكأنهم لم يعتدوا بخلاف داود ، وقد سبق أن الأصح أنه لا يُعتد بخلافه ، ولا خلاف غيره من أهل الظاهر لأنهم نفوا القياس ، وشرط المجتهد أن يكون عارفا بالقياس . ثم إن هذا الاتفاق نقله غير واحد ، فقد نقله ابن عبد البر فقال : ولا خلاف بين المسلمين أن صلاة التطوع كلها غير جائز أن يُصلى شيء منها عند طلوع الشمس ولا عند غروبها ، وإنما اختلفوا في الصلوات المكتوبات والمفروضات على الكفاية والمسنونات ([4]) . وقال العراقي : وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ ([5]) . ثم ذكَرَ قول ابن عبد البر وقول النووي . أوقات النهي : يُمكن تقسيم أوقات النهي عن الصلاة إلى خمسة أوقات : 1 - بعد العصر إلى أن تصفرّ الشمس . 2 – بعد الفجر إلى أن تطلع الشمس . 3 – قُبيل صلاة الظهر إلى أن تزول الشمس ( بمقدار عشر دقائق تقريبا قبل الأذان ) . 4 – من اصفرار الشمس إلى الغروب . 5 – من طلوع الشمس إلى أن ترتفع قيد رمح ( بمقدار عشر دقائق تقريبا ) . هذه الأوقات لا يجوز أن التطوّع فيها ابتداءً . ومِن العلماء مَن يَرى أن وقت النهي مِن طُلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، لا يُصلَّى فيه من النوافل إلاَّ راتبة الفجر . ففي حديث حفصة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا طلع الفجر لا يُصَلِّي إلاَّ ركعتين خفيفتين ([6]) . قال ابن قدامة : فَأَمَّا النَّهْيُ بَعْدَ الْفَجْرِ فَيَتَعَلَّقُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَالْعَلاءُ بْنُ زِيَادٍ ، وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ . وَقَالَ النَّخَعِيُّ : كَانُوا يَكْرَهُونَ ذَلِكَ . يَعْنِي التَّطَوُّعَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ . وَرُوِيَتْ كَرَاهَتُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو . وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ النَّهْيَ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ الصَّلاةِ أَيْضًا كَالْعَصْرِ ([7]) . ويُمكن تقسيم هذه الأوقات الخمسة إلى أوقات موسّعة ، وهي ما بعد صلاة الفجر وما بعد صلاة العصر ، وإلى أوقات مُضيَّقة ، وهي عند طلوع الشمس وعند غروبها وعند الزوال . ودليل النهي الْموسَّع : حديث أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاتين : نَهَى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس ، وبعد العصر حتى تغرب الشمس ([8]) . وحديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا : لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ، ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس ([9]) . والذي يظهر أن ذوات الأسباب تُصلى في الأوقات الموسَّعة دون المضيَّقة . وذلك للدليل والتعليل : أما الدليل فهو قوله عليه الصلاة والسلام : إذا طلع حاجب الشمس فأخِّروا الصلاة حتى ترتفع ، وإذا غاب حاجب الشمس فأخِّروا الصلاة حتى تغيب ([10]) . وفي رواية : " لا تَحَرّوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها ، فإنها تطلع بقرني شيطان " ([11]) . وفي رواية : " إذا طلع حاجب الشمس فَدَعُوا الصلاة حتى تَبْرُز ، وإذا غاب حاجب الشمس فَدَعُوا الصلاة حتى تغيب ، ولا تَحَيَّنُوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها ، فإنها تطلع بين قرني شيطان " ([12]) . وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، وفيه : وَوَقْتُ صَلاةِ الصُّبْحِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ ، فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَأَمْسِكْ عَنْ الصَّلاةِ ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ ([13]) . وحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا : حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع ، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب ([14]) . وفي حديث عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه : صَلِّ صَلاةَ الصُّبْحِ ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ ، ثُمَّ صَلِّ ، فَإِنَّ الصَّلاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلاةِ ، فَإِنَّ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ ، فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ ، فَإِنَّ الصَّلاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ ، فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ ([15]) . قال العراقي في شرح الحديث ([16]) : اقْتَصَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى حَالَتَيْ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا ، وَدَلَّ غَيْرُهُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ مُسْتَمِرٌّ بَعْدَ الطُّلُوعِ حَتَّى تَرْتَفِعَ ، وَأَنَّ النَّهْيَ يَتَوَجَّهُ قَبْلَ الْغُرُوبِ مِنْ حِينِ تَضَيُّفِ الشَّمْسِ أَيْ مَيْلِهَا ، وَهِيَ حَالَةُ صُفْرَتِهَا وَتَغَيُّرِهَا فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ " إذَا طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلاةَ حَتَّى تَرْتَفِعَ " لَفْظُ الْبُخَارِيِّ ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ حَتَّى يَبْرُزَ ، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : : ثَلاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ ، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَزُولَ وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ " وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قُلْت يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ الصَّلاةِ قَالَ صَلِّ صَلاةَ الصُّبْحِ ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ ، ثُمَّ صَلِّ ، فَإِنَّ الصَّلاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلاةِ ، فَإِنَّ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ ، فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ ، فَإِنَّ الصَّلاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ ، فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ . وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُطْلَقُ الارْتِفَاعِ عَنْ الأُفُقِ بَلْ الارْتِفَاعُ الَّذِي يَذْهَبُ مَعَهُ صُفْرَةُ الشَّمْسِ أَوْ حُمْرَتُهَا ، وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِقَدْرِ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لا تُنَافِي لَفْظَ الْحَدِيثِ ؛ لأَنَّ مَعْنَى ( عِنْدَ ) حَضْرَةُ الشَّيْءِ ، فَمَا قَارَبَ الطُّلُوعَ وَالْغُرُوبَ فَلَهُ حُكْمُهُ ، لَكِنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا يُقَارِبُ الطُّلُوعَ مِمَّا بَعْدَهُ ، وَمَا يُقَارِبُ الْغُرُوبَ مِمَّا قَبْلَهُ ، وَتَمَسَّكَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَقَالَ : إنَّ الْكَرَاهَةَ تَزُولُ بِطُلُوعِ قُرْصِ الشَّمْسِ بِتَمَامِهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ لأَنَّ الأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الارْتِفَاعِ مَعَهَا زِيَادَةُ عِلْمٍ فَيَجِبُ الأَخْذُ بِهَا . اهـ . وفي حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : كان لا يقوم ([17]) مِن مُصَلاّه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس ، فإذا طلعت الشمس قام ([18]) . وفي رواية : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر تربّع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناء ([19]) . وأما التعليل فلأن الأوقات المضيَّقة هي أوقات قصيرة يسيرة ، مع ما يقع فيها من مُشابهة المشركين . قال الإمام الذهبي : فنفس الموافقة والمشاركة لهم ([20]) في أعيادهم ومواسمهم حرام ، بدليل ما ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها ، وقال : إنها تطلع بين قرني شيطان ، وحينئذ يسجد لها الكفار ، والمصلِّي لا يقصد ذلك إذ لو قصده كَفَرَ ، لكن نفس الموافقة والمشاركة لهم في ذلك حرام ([21]) . قال ابن قدامة : والنهي عن الصلاة بعد العصر متعلق بفعل الصلاة ، فمن لم يُصلِّ أبيح له التنفّل وإن صلى غيره ، ومن صلى العصر فليس له التنفل ، وإن لم يصل أحد سواه ، لا نعلم في هذا خلافا عند من يمنع الصلاة بعد العصر ([22]) . وقال أيضا : الصحيح أنه لا يُصلى على الجنازة في الأوقات الثلاثة التي في حديث عقبة بن عامر ، وكذلك لا ينبغي أن يركـع للطواف فيها ، ولا يُعيد فيها جماعـة ، وإذا مُنعت هذه الصلوات المتأكدة فيها فغيرها أولى بالمنع ([23]) . هل تُصلّى ذوات الأسباب في وقت النهي ؟ ما كان من ذوات الأسباب فإنها تُصلّى في أوقات النهي على الصحيح من أقوال أهل العلم . فالفوائت تُصلي في أوقات النهي لقوله عليه الصلاة والسلام : من نسي صلاة أو نام عنها ، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها ، لا كفارة لها إلا ذلك ([24]) . ولقوله عليه الصلاة والسلام : من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس ، فقد أدرك الصبح ، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس ، فقد أدرك العصر . رواه البخاري ومسلم . قال ابن عبد البر : وقال مالك والثوري والشافعي والأوزاعي - وهو قول عامة العلماء - من أهل الحديث والفقه من نام عن صلاة أو نسيها أو فاتته بوجه من وجوه الفوت ثم ذكرها عند طلوع الشمس واستوائها أو غروبها أو بعد الصبح أو العصر - صلاها أبداً متى ذكرها ([25]) . إلا أنها لا تُصلَّى عند طلوع قرص الشمس ، ففي حديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْن رضي الله عنهما حينما ناموا عن صلاة الفجر : حَتَّى اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ وَرَأَى الشَّمْسَ قَدْ بَزَغَتْ قَالَ : ارْتَحِلُوا، فَسَارَ بِنَا حَتَّى إِذَا ابْيَضَّتْ الشَّمْسُ نَزَلَ فَصَلَّى بِنَا الْغَدَاةَ ([26]) . كما تُصلى كل صلاة لها سبب : فـتُصلّى ركعتي الطواف في أوقات النهي لقوله عليه الصلاة والسلام : يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار ([27]) . وتُصلى تحية المسجد لقوله عليه الصلاة والسلام : إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ([28]) وتُصَلَّى سنة الوضوء في أوقات النهي الموسَّع فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ بلالاً على صلاة ركعتين كلما توضأ ، فقال عليه الصلاة والسلام : يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته عندك في الإسلام منفعة ؟ فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة . قال بلال: ما عملت عملا في الإسلام أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهورا تامًّا في ساعة من ليل ولا نهار إلاَّ صليت بذلك الطهور ما كََتَبَ الله لي أن أصلي ([29]) . ولقائل أن يقول : كيف مُنعت الصلاة في الأوقات المضيّقة ، وحديث بلال هذا لم يخص وقتا دون وقت . والجواب : أن ما في هذا الحديث إقرار منه عليه الصلاة والسلام ، وما تقدّم من النهي عن الصلاة في الأوقات المضيّقة قول ، ودلالة القول أقوى من دلالة التقرير . كما أن القول خاص ، وفعل بلال عام في كل وقت ، فقُدِّم الخاص على العام . وتبقى دلالة فعل بلال على جواز صلاة ذوات الأسباب في أوقات النهي الموسّعة دون المضيّقة . وتُصلى راتبة الفجر بعد صلاة الفجر : قال ابن قدامة : فأما قضاء سنة الفجر بعدها فجائز ، إلاّ أن أحمد اختار أن يقضيهما من الضحى ، وقال : إن صلاهما بعد الفجر أجزأ ، وأما أنا فأختار ذلك ، وقال عطاء وابن جريج والشافعي يقضيهما بعدها ، لِمَا رُوي عن قيس بن قهد ([30]) قال : رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي ركعتي الفجر بعد صلاة الفجر ، فقال : ما هاتان الركعتان يا قيس ؟ قلت يا رسول الله لم أكن صليت ركعتي الفجر فهما هاتان . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي ([31]) ، وسكوت النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الجواز ؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى سنة الظهر بعد العصر ، وهذه في معناها ؛ ولأنها صلاة ذات سبب فأشبهت ركعتي الطواف ([32]) . وتُصلّى صلاة الكسوف ؛ لأنها من ذوات الأسباب . ويُسجد سجود التلاوة والشكر في هذه الأوقات ، وهو مُجرّد سُجود ، وليس مِن جِنْس الصلاة . إشكال وجوابه : ثبت النهي عن الصلاة بعد العصر في غير حديث تقدّم بعضها ، وثبت ما يُعارضه ظاهرا ، وهو أنه عليه الصلاة والسلام قضى سنة الظهر بعد العصر ، فقد روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العصر عندي قط . وسيأتي ذِكر مزيد من الروايات : وللعلماء مسالك في الجمع بين هذه الأحاديث : الأول : أنه تعارض حاظر ومُبيح والقاعدة أنه إذا تعارض حاظر ومُبيح قُـدِّم الحاظر . والثاني : أنه هذا الفعل خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم . قال الحافظ ابن حجر : تمسك بهذه الروايات من أجاز التنفل بعد العصر مطلقا ما لم يقصد الصلاة عند غروب الشمس ، وقد تقدم نقل المذاهب في ذلك ، وأجاب عنه من أطلق الكراهة بأن فعله هذا يدل على جواز استدراك ما فات من الرواتب من غير كراهة ، وأما مواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك فهو من خصائصه ، والدليل عليه رواية ذكوان مولى عائشة أنها حدثته أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد العصر وينهى عنها ، ويواصل وينهى عن الوصال . رواه أبو داود ([33]) . والثالث : أن هذا من قضاء النوافل ، ولا يكون هذا إلا لمن حافظ عليها . وهذا الذي يظهر من النصوص الواردة في صلاته صلى الله عليه وسلم بعد العصر . ففي الصحيحين عن كريب مولى ابن عباس أن عبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن أزهر والمسور بن مخرمة أرسلوه إلى عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : اقرأ عليها السلام منا جميعا وسلْها عن الركعتين بعد العصر ، وقل : إنا أُخبرنا أنك تصلينهما ، وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنهما . قال ابن عباس : وكنت أَضْرِب مع عمر بن الخطاب الناس عليها . قال كريب : فدخلت عليها وبلغتها ما أرسلوني به فقالت : سَـلْ أم سلمة . فخرجت إليهم فأخبرتهم بقولها فردوني إلى أم سلمة بمثل ما أرسلوني به إلى عائشة فقالت أم سلمة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنهما ثم رأيته يصليهما ؛ أما حين صلاهما فإنه صلى العصر ، ثم دخل وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار فصلاهما ، فأرسلت إليه الجارية فقلت : قومي بجنبه فقولي له : تقول أم سلمة يا رسول الله إني أسمعك تنهى عن هاتين الركعتين وأراك تصليهما ، فإن أشار بيده فاستأخري عنه . قال : ففعلت الجارية فأشار بيده ، فاستأخرت عنه ، فلما انصرف قال : يا بنت أبي أمية سألتِ عن الركعتين بعد العصر . إنه أتاني ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم ، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر ، فهما هاتان ([34]) . وعند مسلم ([35]) عن أبي سلمة أنه سأل عائشة عن السجدتين اللتين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصليهما بعد العصر . فقالت : كان يصليهما قبل العصر ، ثم إنه شغل عنهما أو نسيهما فصلاهما بعد العصر ثم أثبتهما ، وكان إذا صلى صلاة أثبتها . قال يحيى بن أيوب : قال إسماعيل : تعني داوم عليها . قال ابن قدامة : وأما قضاء السنن الراتبة بعد العصر ، فالصحيح جوازه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله فإنه قضى الركعتين اللتين بعد الظهر بعد العصر في حديث أم سلمة ، وقضى الركعتين اللتين قبل العصر بعدها في حديث عائشة ، والاقتداء بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم متعين ؛ ولأن النهي بعد العصر خفيف لما رُوي في خلافه مِن الرخصة ، وما وقع من الخلاف فيه ، وقول عائشة : إنه كان ينهى عنها ، معناه - والله أعلم - نهى عنها لغير هذا السبب ، أو أنه كان يفعلها على الدوام وينهى عن ذلك ، وهذا مذهب الشافعي ([36]) . فائدة : إذا صلّى العصر صار ما بعدها وقت نهي ، سواء صلاّها في أول القوت ، أو جَمَعها جَمْع تقديم . قال ابن قدامة : النَّهْيُ عَنْ الصَّلاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ الصَّلاةِ ، فَمَنْ لَمْ يُصَلِّ أُبِيحَ لَهُ التَّنَفُّلُ ، وَإِنْ صَلَّى غَيْرُهُ . وَمَنْ صَلَّى الْعَصْرَ فَلَيْسَ لَهُ التَّنَفُّلُ وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ أَحَدٌ سِوَاهُ . لا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلافًا عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُ الصَّلاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ ([37]) . وإذا جمع في وقت الأولى فله أن يصلي سنة ثانية منهما ، ويُوتِر قبل دخول وقت الثانية ؛ لأن سُنَّتها تابعة لها فيتبعها في فعلها ووقتها ، والوتر وَقته ما بين صلاة العشاء إلى صلاة الصبح ، وقد صلى العشاء فدخل وقته ([38]) . كتبه / عبد الرحمن بن عبد الله السحيم – محرم 1425 هـ . ------------------------------------- ([1] ) الإعلام بِفوائد عمدة الأحكام ( 2 / 310 ) . ([2] ) نيل الأوطار ( 3 / 100 ) . ([3] ) ( 9 / 230 ) . ([4] ) الاستذكار ( 1 / 112 ) . ([5] ) طرح التثريب ( 1 / 367 ) . ([6]) رواه البخار ي(ح 593) ومسلم (ح 723) . ([7]) المغني (2/525) . ([8]) رواه البخاري (ح 559) . ([9]) رواه البخاري (ح 561) . ([10]) رواه البخاري (ح 558) ومسلم (ح 829) . ([11]) رواه البخاري (ح558) ومسلم (ح 828) . ([12]) رواية البخاري (ح 3099) . ([13]) رواه مسلم (ح612) . ([14]) رواه مسلم (ح 831) . ([15]) رواه مسلم (ح 832) . ([16]) طرح التثريب (4/168) . ([17]) يعني : النبي صلى الله عليه وسلم . ([18]) رواه مسلم (ح 670) . ([19]) رواه الإمام أحمد (ح 21032) وأبو داود (ح 4850) . ([20]) يعني بهم الكفار والمشركين . ([21]) تشبه الخسيس بأهل الخميس ( ص 30 ) . ([22]) المغني ( 2 / 525 ) . ([23]) المرجع السابق ( 2 / 535 ) . ([24]) رواه البخاري (ح 572) ومسلم (ح 684) . ([25]) الاستذكار ( 1 / 47 ) . ([26]) رواه البخاري (ح 337) ومسلم (ح 682) . ([27]) رواه الترمذي ( ح 868 ) والنسائي (ح 585) وابن ماجه ( ح 1254 ) ، وصححه الألباني في " الإرواء " (ح 481) . ([28]) رواه البخاري (ح 1110) ومسلم (ح 714) . ([29]) رواه البخاري (ح 1098) ومسلم (ح 2458) . ([30]) قال النووي : بقاف مفتوحة ثم هاء ساكنة ثم دال . ([31]) وقال الألباني : صحيح لغيره . ([32]) المغني ( 2 / 531 ، 532 ) . ([33]) فتح الباري ( 2 / 64 ) . ([34]) رواه البخاري (ح 1176) ومسلم (ح 834) . ([35]) (ح 835) . ([36]) المغني ( 2 / 533 ) . ([37]) المرجع السابق (2/525) . ([38]) المرجع السابق (3/140) ( 3 / 140 ) وقوله : " فله أن يصلي سنة ثانية منهما " لا يُفهم منه الصلاة بعد العصر إذ هو وقت نهي ، كما أن السنة للمسافر أن لا يُصلي السنن الرواتب عدا راتبة الفجر ، لِمَا رواه البخاري ( ح 1050 ) ومسلم ( ح 689 ) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أره يُسَبِّح في السفر . يعني به السنة الراتبة ؛ لأن ابن عمر نفسه روى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم النافلة في السفر على الراحلة ( البخاري ح 955 ) و ( مسلم ح 700 ) ويُستثنى من ذلك راتبة الفجر ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتركها في سفر ولا في حضر . روى البخاري ( ح 1106 ) عن عائشة رضي الله عنها قالت : صلى النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ، ثم صلى ثماني ركعات ، وركعتين جالسا ، وركعتين بين النداءين ، ولم يكن يدعهما أبدا . |
بحـث
مواضيع مماثلة
المواضيع الأخيرة
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
بدر الجندى - 1835 | ||||
محمد الجندى - 836 | ||||
أبو حفصه سعيد - 731 | ||||
نور الهدى - 605 | ||||
السيد علم الدين - 411 | ||||
السيد عبد المقصودعيسى - 226 | ||||
اسلام الجندى - 189 | ||||
أبو دجانة - 128 | ||||
وحيدعمار - 67 | ||||
فاطمة الشواف - 63 |
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 2 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 2 زائر
لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 120 بتاريخ الجمعة يوليو 28, 2017 12:49 pm
احصائيات
أعضاؤنا قدموا 5716 مساهمة في هذا المنتدى في 2262 موضوع
هذا المنتدى يتوفر على 1786 عُضو.
آخر عُضو مُسجل هو عادل جابري فمرحباً به.
سحابة الكلمات الدلالية
2 مشترك
الصلاة في أوقات النهي
احمد بدر- عدد المساهمات : 12
نقاط : 18
تاريخ التسجيل : 30/08/2010
العمر : 37
- مساهمة رقم 1
الصلاة في أوقات النهي
السيد علم الدين- عدد المساهمات : 411
نقاط : 736
تاريخ التسجيل : 21/09/2010
- مساهمة رقم 2
رد: الصلاة في أوقات النهي
مشكووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووور حبيبى بارك الله فيك | |||||
الخميس أكتوبر 31, 2019 6:59 pm من طرف ashraf_mohamed
» الفرق بين شاشات البلازما وال LCD
الإثنين أكتوبر 21, 2019 5:10 pm من طرف رمضان
» اليكم دوائر بور توشيبا
الأربعاء أكتوبر 02, 2019 6:25 am من طرف afndm
» اليكم احدث ملف قنوات كيوماكس 999 فرجن 8 ابو فلاشة
الأربعاء أكتوبر 02, 2019 6:16 am من طرف afndm
» سوفت وملف قنوات هليوتك 2000 وايجل 2000 القديم
الأربعاء مارس 20, 2019 3:34 pm من طرف صابرالخضرى
» سوفت اصلى هليوتك 5000 حديث
الأربعاء مارس 20, 2019 3:30 pm من طرف صابرالخضرى
» طريقة توصيل دائرةA-V للاجهزة القديمة
الثلاثاء يوليو 31, 2018 12:28 pm من طرف tareksaied
» ملف قنوات ستار 888 الصينى
الأربعاء مايو 09, 2018 2:07 pm من طرف manartvd9
» اطلب اى استفسار عن الايسيهات
الجمعة أكتوبر 13, 2017 5:57 pm من طرف النمر2011